تعلمت من الشهيد محمد يوسف هواش ..د/ محمود عزت
أول ما تعلمت منه: «كيف تكون النظرة أبلغ من الكلمة، ثم لابد للكلمة أن تكون في وقتها، ثم إذا حاورتَ فليكن آخر حوارك ما
اتفقت مع مَنْ تحاوره عليه..».
أول ما عرفت الأستاذ هواش كان في السجن الحربي، وعرفته من نظراته، كان الكلام ممنوعاً في السجن الحربي؛ فكان الحوار بيننا بنظرات العيون كما يقولون، فكان ينظر إلينا.. وكانت في نظراته عبارات من المودة والمحبة والشفقة والرحمة لإخوانه.
كنت أمشي مرة خلفه، وكنا نصعد السلالم، فرأيته يردد عبارة: «كله في حبك يهون»، كان من بين الإيذاء في السجن الحربي أن الميكرفونات تردد بصوت عال أغاني «أم كلثوم»، فشعرت أن الرجل كان يناجي ربه، ولمست من هذه العبارة عبارة قريبة من مناجاة ربه، نعم كل شيء في سبيل الله يهون.. التعذيب يهون.. الحرمان من كل شيء يهون.
كان الأستاذ هواش حريصاً على أن يوصل كل ما عنده للجيل التالي، وكان يرى في أخي د. صلاح عبدالحق وكان أصغرنا سناً، ثم أنا، ثم أخي الشهيد فاروق المنشاوي (استشهد في السجن أيضاً) يرى في هؤلاء الشباب الثلاثة وعاءً يحمل هذه الدعوة؛ فحرص على أن يسكن معنا، ففي الفترة ما بين المحاكمات إلى إصدار الأحكام كنا في زنازين انفرادية، ورأيتُ رؤيا وأنا في زنزانتي وافقتْ ما كان يطلبه الأستاذ هواش، كان حريصاً عندما تنتهي فترة الحبس الانفرادي أن يكون قريباً من شباب الإخوان حتى يستطيعوا حمل ما عنده من هذه الدعوة المباركة، فرأيت رؤيا: أن عبدالناصر يتابعه شخص أسود اللون ملامحه صعبة جداً، ويقول له بيده: «مت»، فكان في صالة واسعة دخل إلى أضيق منها، ويقول له مرة ثانية: «مت»، فدخل إلى أضيق منها، ثم قال له: «مت» فمات.. كانت هذه الرؤيا في عام 1966م، حيث أنا في الرؤيا أقول لنفسي: والله لأحدثن بها أحب الناس إليّ وهو الأستاذ محمد يوسف هواش، ولكنني لم ألتقِ به ولا حتى ربما تحدثت معه، لكن كنت أراه ينظر إلينا هذه النظرات في طوابير التعذيب. وكنا نسأله ويحدثنا فيما يراه من تاريخ الدعوة من الدروس المستفادة، وكان رفيق الأستاذ سيد قطب طوال فترة سجنه، وكان الأستاذ سيد يرحمه الله يعرض عليه كثيراً مما يكتب، وأحياناً يأخذ بوجهة نظره فيعدّل ما كتب، وذات مرة سألته عن شيء فصمت، وتعودت منه التفكير قبل أن يجيب، فسألته مرة ثانية فصمت، فظننت أنه يفكر في الإجابة، وفي المرة الثالثة لما سألته قال لي: ماذا فعلتُ عندما سألتني؟ قلت له: صمتَّ، قال: هذه هي الإجابة..
كان يعلمنا أدب الحوار وأدب الحديث، وعندما نتناقش في موضوع من الموضوعات ننزل بعد ذلك إلى الطوابير وننتهز أي فرصة للحديث بيننا وبين إخواننا، وننقل للأستاذ هواش تساؤلات إخواننا. وذات مرة، دار بينه وبين أحد فقهاء الجماعة وعلمائها حوار.. ونحن أشفقنا من هذا الحوار أنه ربما أن تكون هناك وجهات نظر مختلفة بين الأستاذ هواش وهذا العالِم، فقال لنا: ما تعودت أن أناقش أو أن أحاور أحداً إلا استمعت إلى حجته، ثم تدبرتها، ثم إذا وجدت في حجته ما يوصلني إلى الحق اتبعتها تماماً كاملة، وإلا اتفقت معه على آخر ما نصل إليه من الحق والصواب. كنا شباباً نتحاور ونتجاذب، ولكنه كان حريصاً أن يعلمنا النظرة والكلمة والحب.. كان لديه إحساس أنه سينال الشهادة، وكان حريصاً جداً على أن يكون أميناً في تبليغ هذه الدعوة، وكان مشغولاً بهذا الأمر شغلاً كبيراً. حكى لنا مرة رؤيتين؛ الرؤيا الأولى: هي أنه يقف في صف والرسول [ يسوي هذا الصف، فلما استوى هذا الصف أخذ الأستاذ هواش خطوة إلى الأمام كما يفعل الجندي، وأخذ يتحدث مع الرسول [ يقول له: يا رسول الله، هل بدّلنا من بعدك؟ هل غيّرنا من بعدك؟ فأجابه [ في الرؤيا: «لا، بل أمناء.. أمناء.. أمناء».
الرؤيا الثانية التي قصها علينا أيضاً: أنه رأى من يعذبوننا ويؤذوننا يدخلون إلى ذات الزنازين التي كنا نسكن فيها، وأشار إلينا أن هذه الزنزانة سيكون فيها فلان وهذه الزنزانة سيكون فيها فلان، وكنا نعجب من هذا الكلام!!
ولكن بعد أن نُفذت الأحكام واستشهد الأستاذ هواش، وحدثت نكسة 1967م تحققت رؤياه، لم يرها لكنها تحققت، أحسب أنه صدَقَ الله فصدقه الله، ورأينا ما قصه علينا.. نسأل الله أن يلحقنا به في الصالحين.